لقد أكملت مناقشة موضوعين عن تسعير المنتجات، الأول يتعلق بتحديد الجهة المسؤولة عن التسعير, واتفقنا على أن مهمة تسعير المنتجات تقع على عاتق إدارة التسويق رغم التنازع حول هذه القضية بين بعض الإدارات في بعض الشركات التى ليس لديها أنظمة أو تعيش حالة من العشوائية وعدم الاستقرار. والموضوع الآخر كان حول السياسات التي تنتهجها الشركات عند تسعير منتجاتها, وهي: التسعير على أساس التكلفة، التسعير على أساس المنافسة، والتسعير على أساس القيمة. وفي هذا المقال نريد أن نتعرف على الاستراتيجيات التي عادة ما تتبعها الشركات عند تسعير المنتجات الجديدة, فأدبيات التسويق تصنف استراتيجيات تسعير المنتجات الجديدة إلى نوعين: الاستراتيجية الأولى التسعير على أساس "أخذ قشدة السوق" والاستراتيجية الثانية التسعير على أساس "اختراق السوق", وسيكون أكثر تركيزنا في هذا المقال على الاستراتيجية الأولى ونؤخر الثانية للأسبوع المقبل ـ بإذن الله.
تقوم فكرة استراتيجية أخذ قشدة السوق Market-Skimming Pricing على أساس تحديد سعر مرتفع للمنتج الجديد لحصاد أقصى عائدات ممكنة من كل قطاعات السوق. فتبدأ بالمستهلكين الذين لا يمانعون في دفع سعر مرتفع نتيجة رغبتهم في التميز وتحقيق الذات. وعمل كهذا قد يحقق للشركة أرباحا عالية إلا أن المبيعات تكون منخفضة نسبيا. وبعد أن تتأكد الشركة أنها امتصت الموارد الفائضة للمستهلكين في الشريحة الأعلى تنزل إلى الشريحة الاستهلاكية الأدنى عن طريق تخفيض السعر, وعندما تحوز كل دانق فائض من مواد هذه الشريحة تخفض السعر مرة أخرى كي تصبح في متناول الشريحة الاستهلاكية الأقل وتستمر في التخفيض حتى تستولي على الفائض من جميع قطاعات السوق حسب دخولهم، ثم تقوم بتثبيت أقل سعر وصل إليه المنتج.
ووظفت شركة سوني SONY هذه الاستراتيجية بشيء من البراعة عندما قدمت جهاز التلفزيون المسمى HDTV إلى السوق اليابانية عام 1990 بقيمة 43 ألف دولار ولم يستطع اقتناء هذا الجهاز في بداياته سوى شريحة بسيطة من المجتمع. وعندما كشطت القشدة من جميع المستهلكين القادرين على دفع هذه القيمة خفضت سعر الجهاز تدريجيا حتى وصل سعره بعد ثلاث سنوات إلى ألفي دولار. واستمرت في التخفيض تدريجيا حتى تتمكن كل شريحة من الظفر به وأصبح الجهاز يباع هذه الأيام بأقل من 900 دولار. وبهذه الطريقة حصدت "سوني" على أكبر عائد من كل قطاعات السوق المختلفة. بعض الشركات عندما تستخدم هذه الاستراتيجية وتسعر المنتج بأعلى سعر ترفض أن تخفض أسعارها حتى تصل إلى شرائح المجتمع كافة وتفضل أن تبقى صاحبة أعلى سعر لأنها ترى أن بعض المستهلكين يربطون السعر المرتفع بالجودة العالية, وهذا ما يطلق علماء التسويق بالسعر النفسي. فعندما يهم بعض الشركات باستخدام استراتيجية "أخذ قشدة السوق" فإنها قد تكتفي بالشريحة التي تستطيع أن تدفع أعلى الأسعار وقد ترفع السعر قليلا خلال فترات متباعدة بدلا من خفضه كي تحافظ على شريحة المستهلكين الذين يفضلون دفع سعر أعلى للسلعة اعتقادا منهم أن السعر المرتفع يعني التميز والجودة, وهنا يظهر لنا أنه كلما زاد سعر السلعة زاد الطلب عليها، وقد تقوم برفع السعر تحسبا لأي ارتفاع محتمل لمعدل التضخم, وأمور كهذه لها بعد اقتصادي وليس تسويقيا. والشركات التي تفضل بقاء أسعارها مرتفعة وحكر منتجاتها على شريحة منتقاة من المستهلكين لا تمارس استراتيجية "أخذ قشدة السوق" لأن من شروط نجاح هذه الاستراتيجية تخفيض أسعار المنتجات تدريجيا لكشط الفائض من جميع الشرائح والقطاعات المختلفة من الأسواق كما فعلت "سوني"، أما أن تبقى الأسعار نفسها مرتفعة فإن الشركة لا توظف هذه الاستراتيجية بشكل جيد وهي تتبع المنهج النفسي في التسعير, وهو بعيد عن هذه الاستراتيجية, وسنلقي الضوء عليه في وقت لاحق.
الاستراتيجية الثانية لتسعير المنتجات الجديدة يطلق عليها استراتيجية "تسعير اختراق السوق" Market-Penetration Pricing, وهي عكس استراتيجية "أخذ قشدة السوق". وكلمة Penetration في الأصل مصطلح عسكري يعني التغلغل في أرض العدو لاكتشاف قوته، وقد تمت استعارته إلى ميدان الأعمال بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها, ونجح بالفعل في الميدان التجاري أكثر من نجاحه في الميدان العسكري
لقد بدأت سلسلة مقالات عن تسعير المنتجات, ناقشت خلالها عدة محاور, كان من أبرزها: تحديد الجهة المسؤولة عن التسعير, واتفقنا على أن مهمة تسعير المنتجات تقع على عاتق إدارة التسويق رغم التنازع حول هذه القضية بين بعض الإدارات في بعض الشركات التي ليست لديها أنظمة, أو تعيش حالة من العشوائية وعدم الاستقرار. والموضوع الثاني كان يدور حول السياسات التي تنتهجها الشركات عند تسعير منتجاتها، وأوضحنا أن هناك ثلاث سياسات لتسعير المنتجات: التسعير على أساس التكلفة، التسعير على أساس المنافسة، والتسعير على أساس القيمة. ثم عرجنا على الاستراتيجيات التي عادة ما تتبعها الشركات عند تسعير المنتجات الجديدة. وذكرنا أن أدبيات التسويق صنف استراتيجيات تسعير المنتجات الجديدة إلى اثنتين: الاستراتيجية الأولى التسعير على "أساس أخذ قشدة السوق" Market-Skimming Pricing والأخرى التسعير على أساس "اختراق السوق". واستعرضنا الاستراتيجية الأولى في مقال الأسبوع الماضي بشيء من التفصيل فبينت أنها تقوم على أساس تحديد سعر مرتفع للمنتج الجديد لحصاد أقصى عائدات ممكنة من كل قطاعات السوق, فتبدأ بالمستهلكين الذين لا يمانعون في دفع سعر مرتفع نتيجة رغبتهم في التميز وتحقيق الذات. وبينت أن الشركات اليابانية كـ "نيسان" و"سوني" تفضل استخدام هذه الاستراتيجية عند تسعير بعض منتجاتها.
و في هذا المقال سيكون تركيزنا على الاستراتيجية الثانية التي يطلق عليها استراتيجية التسعير على أساس "اختراق السوق" Market-Penetration Pricing . وهي عكس "أخذ قشدة السوق", أي تسعير المنتج الجديد بأقل سعر ممكن بهدف اختراق السوق والبحث عن موطئ قدم فيها. وكلمة Penetration هي في الأصل مصطلح عسكري يعني التغلغل في أرض العدو لاكتشاف قوته، وتمت استعارته إلى ميدان الأعمال بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها, ونجح بالفعل في الميدان التجاري أكثر من نجاحه في الميدان العسكري.
والأهداف التي تأمل الشركات تحقيقها عند ما تتبنى استراتيجية "اختراق السوق" متعددة أهمها: جذب عدد كبير من المشترين، زيادة حصتها السوقية، والتعرف على نقاط القوة والضعف في السوق. وكي تنجح استراتيجية اختراق السوق عند تسعير المنتجات الجديدة يجب أن تراعي الشركات عدة أمور من أبرزها: أن تكون السوق حساسة للسعر بصورة مرتفعة, بحيث ينتج السعر المنخفض نموا أكبر للسوق، أن يغطي السعر نمو حجم المبيعات وتكاليف الإنتاج والتوزيع والإعلان لفترة طويلة، وأن يساعد السعر المنخفض على طرد المنافسين الأقوياء أو مقاسمتهم الحصة السوقية، وأن يحتفظ مقدم سعر الاختراق بموقعه كصاحب أقل الأسعار، بمعنى ألا يحاول رفع الأسعار بعد طرد المنافسين، حيث تقوم بعض الشركات بإساءة استخدام هذه الاستراتيجية، فبعد طرد المنافسين وتأكدها أن لا منافس قويا يقاسمها الكعكة تقوم برفع الأسعار تدريجيا لتعويض ما قد يحصل لها من خسارة. ورغم أن هذه الاستراتيجية تعد من الطرق الأخلاقية إلا أن ممارسة رفع الأسعار تدريجيا يفقدها المصداقية, والاقتصاديات التي تُحكم الرقابة على أسواقها تدرج من يقوم برفع الأسعار بعد طرد المنافسين من السوق في القائمة السوداء وتعد عملها هذا منافيا لأخلاقيات السوق ولقانون الأعمال. فأبرز فائدة تجنيها الشركات من تطبيق هذه الاستراتيجية زيادة نصيبها من السوق وليس تحقيق مستوى عال من الأرباح.
وعادة ما تلجأ إلى هذه الاستراتيجية الشركات القادرة على التعويض من دون رفع الأسعار, كما تفضل استخدامها الشركات التي تهم بغزو الأسواق الأجنبية, خصوصا دخولها كمستثمر أجنبي. ومن أبرز الشركات التي تتبنى هذه الاستراتيجية مارد تجارة التجزئة وول مارت Wall Mart ومنافستها اللدود تارقت Target . أما الشركات التي ظهرت حديثا في مجال الأعمال وتبنت السعر المنخفض مثل دولار فملي Family Dollar ودولار تري Dollar Tree, فهي لا تطبق استراتيجية "اختراق السوق", فهذه الشركات تنهج طريقة مختلفة في التسعير, فهي تعتمد على مهارتها في التفاوض، وعصر الموردين بشيء من القسوة، والتركيز على كل ما له أثر مباشر في زيادة الأرباح كتخفيض التكاليف الثابتة والمتغيرة. ولا صحة لما يروج عنها من أنها تعتمد في اختراق السوق على تسويق منتجات رديئة الجودة, فهذا ادعاء باطل, بل هي تبيع وتسوق المنتجات ذات الجودة المطلوبة والخاضعة للمواصفات والمقاييس المحلية والدولية وتمارس العمل التجاري بكل حرفية. ولنا وقفات مع هذا النوع من الشركات التي بدأت تهدد كثيرا من عمالقة شركات التجزئة حول العالم.
نعود إلى الموضوع ونقول إن علماء التسويق فضلوا استخدام كلمة "استراتيجية" عند تصنيف طرق تسعير المنتجات الجديدة على كلمة "سياسة", لأن تبعيات تسعير المنتجات الجديدة لا تظهر في الأجل القصير. الشركات التي تريد تحقيق أكبر ميزة نسبية من استخدام استراتيجية "أخذ قشدة السوق" أو استراتيجية "اختراق السوق" عليها ألا تتعجل النتائج ولتعلم أنها قد تستغرق سنين عددا. عندما تبنت "سوني" SONY استراتيجية "أخذ قشدة السوق" عند تقديم جهاز التلفزيون المسمى HDTV إلى السوق اليابانية عام 1990 استغرق تنفيذ هذه الاستراتيجية عقد التسعينيات من القرن الماضي بالكامل.
وقبل أن ننهي هذه السلسلة نريد أن ننوه بأن هناك سياسات أخرى واستراتيجيات متعددة لم تظهر كنماذج ونظريات تدرس في كليات الأعمال, بل بقيت في طور التطبيق فقط, إما لأنها طرق لا أخلاقية وإما لصعوبة توثيقها.